4-هدر مقومات الشخصية الجزائرية:
طمست فرنسا معالم و مقومات الشخصية الوطنية الجزائرية اللغوية منها و التاريخية والدينية، حتى تقضي بذلك على مكونات الوحدة الوطنية، و كانت الإدارة الاستعمارية تسعى دوما إلى تغييب الدين الإسلامي عن مشاعر الجزائريين، باعتباره أهم مقوم للشخصية الجزائرية، و لذلك فلا غرابة أن نجدها تحاربه منذ الوهلة الأولى لاحتلال الجزائر ففي 11 جويلية 1830 أقامت إدارة دوبورمون حفلا دينيا ضخما في الساحة الرئيسية لمدينة القصبة بالجزائر، و قد حضره العديد من الجنرالات و الضباط و الجنود للتعبير عن نشوة الانتصار الصليبي. و قد روى أحد الذين حضروا الاحتفال، و عبر عن مشاعر الحضور بقوله:"إن الاحتفال الضخم جرى في القصبة التي بناها أبناء محمد (ص) لمواجهة أبناء عيسى( عليه السلام) و قد رتلوا آيات الإنجيل بأصوات عالية أمام آيات القرآن التي أصبحت ميتة، و التي كانت تغطي كل الجدران." (3) سعد الله، الحركة وطنية، ج1، ص72 .
و منذ ذلك التاريخ و الإدارة الفرنسية تتمادى في إصدار قوانينها لتجريد ما وجدت عليه من الإجراءات و القوانين النابعة من الشرع الإسلامي، و انتهجت إدارة الاحتلال سلسلة من الإجراءات التعسفية لإنجاح مشروعها التغريبي، ففي سنة1841 قررت أن تكون المحاكم الفرنسية هي المسؤولة المباشرة عن النظر في القضايا الهامة، ومن تم أصبح دور القاضي الجزائري كتابة العقود،و إصدار الفتوى و نحوها، و في 31 ديسمبر 1859 أصدرت إدارة الاحتلال مرسوما جديدا يتضمن إلغاء مجالس الاستئناف، و إعطاء هذه الصلاحيات إلى المحاكم الفرنسية دون غيرها.
و هكذا تمكنت الإدارة الفرنسية من تعطيل القضاء الإسلامي، و أصبح القاضي المسلم يعمل تحت رقابة القضاء الاستعماري، وقد نتج عن ذلك التخلي عن العمل بالقوانين الإسلامية التي كانت مستعملة ومنتشرة بين الجزائريين قبل الاحتلال، و كانوا يرجعون إليها في حل نزاعاتهم و تنظيم حياتهم، و من تم أصبح القضاء الفرنسي هو السائد وهو المرجع الأساسي في التشريع، وأصبح القاضي المسلم مجبر على تعلم اللغة الفرنسية للمرافعة بها، وقد أشار إلى ذلك عمار بوحوش بقوله :"و بما أن الجزائريين لا يعرفون القوانين الفرنسية، و معظمهم لا يجيدون الحديث باللغة الفرنسية ،فإنه أصبح من المحتم عليهم الالتجاء إلى الوسطاء الفرنسيين عند عرض قضاياهم على المحاكم الفرنسية ."(1) بوحوش، المرجع السابق، ص174.
و بالفعل تمكن الاستعمار الفرنسي من محاربة الشرع الإسلامي، و كتب في ذلك الصدد أحمد توفيق المدني يصف تلك المرارة التي ألحقت بالجزائريين، بعد أن ضربوا في أقدس مقدسا تهم بقوله:" هل يعلم عربي في دنيا العروبة أن القضاء في قطر الجزائر العربي المسلم قضاء فرنسي كله؟ و أن أهل البلاد ليست لهم أدنى مشاركة فيه؟ إن القضاء الشرعي الإسلامي قد حطمه الاستعمار تحطيما، فالقاضي المسلم المتخرج من المدرسة الحكومية هو موظف فرنسي يحكم بين المسلمين في أمور الزواج، و الطلاق و الحضانة و المواريث، إنما أحكامه تعتبر كلها ابتدائية وللمتقاضين استئنافها للمحاكم الفرنسية التي يكون لها القول الفصل.أما في بلاد القبائل فالقضاء الإسلامي يعتمد هناك منذ 1874 على العرف و التقاليد، أكثر ما يعتمد على الفقه الإسلامي، لتحقيق السياسة الخرافية التي ترمي إلى الفصل بين العربي و البربري، فالقضاء في القطر الجزائري مصيبة من أعظم المصائب الاستعمارية التي نكبت بها البلاد." (2) أحمد توفيق المدني، هذه هي الجزائر، ص138.
وقد أكد هذا المسخ الاستعماري أحد خدم السياسة الاستعمارية في الجزائر و المدعو بيرك، الذي كان مسؤولا على تسيير مديرية الشؤون الأهلية، و كشف عن سياسة فرنسا تجاه رجال الديانة الإسلامية في الجزائر بقوله:"لقد وصل بنا امتهان و احتقار الدين الإسلامي إلى درجة أننا أصبحنا لا نسمح بتسمية المفتي، أو الإمام إلا من بين الذين اجتازوا سائر درجات التجسس، ولا يمكن لموظف ديني أن ينال أي رقي إلا إذا ما أظهر للإدارة الفرنسية إخلاصا منقطع النظير.." (3)المدني،المصدر السابق، ص148.
و كانت جميع الإجراءات الفرنسية التدميرية السالفة الذكر، تراهن على دمج الجزائريين و تجنسهم بالجنسية الفرنسية ،لكنها لم تفلح في تلك السياسة، وذلك باعتراف الفرنسيين أنفسهم، و لعل الجدول التالي خير دليل على ذلك، إذ يوضح طلبات الجزائريين للحصول على الجنسية الفرنسية منذ فاتح جانفي 1899 إلى فاتح أكتوبر 1909.
و كانت قليلة جدا مقارنة بالعدد الإجمالي للجزائريين الذي قدر مع بداية القرن العشرين ب5'4 مليون نسمة.
